عرفت أني فكرت ليلة أمس فيما أكتب اليوم، وعرفت أني آخذ الساعة بقلمي بين أناملي، وأن بين يدي صحيفة بيضاء تَسْودُ قليلاً قليلاً كلما أجريت القلم فيها؛ ولكني لا أعلم هل يبلغ القلم مداه أو يكبو دون غايتة؟ وهل أستطيع أن أتمم رسالتي هذه، أو يعترض عارض من عوارض الدهر في سبيلها؟ لأني لا أعرف من شؤون الغد شيئاً، ولأن المستقبل بيد الله.
عرفت أني لبست أثوابي في الصباح، وأني لا أزال ألبسها حتى الآن، ولكني لا أعلم هل أخلعها بيدي أو تخلعها يد الغاسل؟
الغد شبح مبهم يتراءى للناظر من مكان بعيد، فربما كان ملكًا رحيمًا، وربما كان شيطانًا رجيمًا، بل ربما كان سحابة سوداء إذا هبت عليها ريح باردة حللت أجزاءها، وبعثرت ذراتها، فأصبحت كأنها هي عدم من الأعدام التي لم يسبقها وجود.
الغد بحر خضم زاخر يعب عبابه وتصطخب أمواجه، فما يُدْرِيكَ إن كان يحمل في جوفه الدّر والجوهر أو الموت الأحمر.
لقد غمضَ الغدُ عن العقول، ودق شخصه عن الأنظار، حتى لو أن إنسانًا رفع قدمه ليضعها في خروجه من باب قصره؛ لا يدري أيضعها على عتبة القصر أم على حافة القبر.
الغد صدر مملوء بالأسرار الغزار، تحوم حوله البصائر، وتتسقطه العقول، وتستدرجه الأنظار، فلا يبوح بسر من أسراره؛ إلاّ إذا جاءت الصخرة بالماء الزلال.
كأني بالغد وهو كامن في مكمنه، رابض في مجثمه. متلفع بفضل إزاره، ينظر إلى آمالنا وأمانينا نظرات الهزء والسخرية ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء، يقول في نفسه: لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث، وهذا الباني يبني للخراب، وهذا الوالد أنه يلد للموت:ما جمع الجامع ولا بني الباني ولا ولدَ الوالدُ.
ذلل الإنسان كل عقبة في هذا العالم، فاتخذ نفقًا في الأرض وصعد في سلم إلى السماء، وعقد ما بين المشرق والمغرب بأسباب من حديد، وخيوط من نحاس، وانتقل بعقله إلى العالم العلوي، فعاش في كواكبه،وعرف أغوارها وأنجادها. وسهولها وبطاحها، وعامرها وغامرها، ورابطها ويابسها. ووضع المقاييس لمعرفة ابعاد النجوم ومسافات الاشعة. والموازين لوزن كرة الأرض إجمالاً وتفصيلاً. وغاص في البحار فعرف أعماقها، وفحص تربتها وأزعج سكانها، ونبش دفائنها وسلبها كنوزها، وغلبها على لآلئها وجواهرها، ونفذ من بين الأحجار والآكام إلى القرون الخالية فرأى أصحابها وعرف كيف يعيشون وأين يسكنون، وماذا يأكلون ويشربون، وتسرب من منافذ الحواس الظاهرة إلى الحواس الباطنة، فعرف النفوس وطبائعها، والعقول ومذاهبها، والمدارك ومراكزها؛ حتى كاد يسمع حديث النفس ودبيب المنى، واخترق بذكائه كل حجاب، وفتح كل باب، ولكنه سقط أمام باب الغد عاجزًا مقهورًا لا يجرؤ على فتحه، بل لا يجسر على قرعه، لأنه باب الله، والله لا يُطلعُ على غيبه أحدًا.
أيها الشبح الملثم بلثام الغيب، هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلاً لنرى صفحة واحدة من صفحات وجهك المقنع، أو لا ، فاقترب منا قليلاً علّنا نستشف صورتكَ من وراء هذا اللثام المسبل دوننا، فقد طارت قلوبنا شوقًا إليكَ، وذابت أكبادنا وجدًا عليك.
أيها الغد إن لنا آمالاً كبارًا وصغاراً، وأماني حسنًا وغير حسان، فحدثنا عن آمالنا أين مكانها منكَ، وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها؛ أأذللتها واحتقرتها، أم كنت لها من المكرمين؟
لا ، لا صن سرك في صدرك، وابقِ لثامك على وجهك، ولا تحدثنا حديثًا واحداً عن آمالنا وأمانينا، حتى لا تفجعنا في أرواحنا ونفوسنا فإنما نحن أحياء بالآمال وإن كانت باطلة، وسعداء بالأماني وإن كانت كاذبة.
وليست حياة المرء إلا أمانيا ..... إذا هي ضاعت فالحياة على الأثر.
مصطفى لطفي المَنْفَلُوطي